مدينة صور اللبنانية تروي تاريخ حضارات غابر
تبدو مدينة صور اللبنانية، تحفة فنية رائعة، ويقصدها السائحون للتمتع بآثارها وشواطئها الرملية الجميلة والمحمية والمحاطة ببساتين الليمون والحمضيات.
كانت من أكبر المدن الفينيقية، وعرف أهلها بتبادل المصنوعات الحرفية اليدوية، مثل المنتوجات الصوفية، والأرجوان، والمنتوجات الزجاجية، وغيرها من الأشياء التي كانت تجلب من بلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية ومصر.
وصور تعتبر من أهم المدن الساحلية في العالم، لموقعها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وهي تبعد عن العاصمة بيروت 83 كلم وقد أطلق عليها لقرون عدة لقب “سيدة البحار” وهي من المدن القديمة ذات التاريخ العريق تروي معالمها الأثرية حقبا تاريخية وحضارات بشرية.
تتنوع الآثار في مدينة صور، معالم من كل الحقب التاريخية المتعاقبة كالإغريقية والبيزنطية والعربية والعثمانية، ويرجع تاريخ تأسيسها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ويشير الباحثون في تاريخ لبنان إلى أن صور من أشهر حواضر العالم نظرا للدور الذي لعبته في الحقبة الفينيقية، من ناحية سيطرتها على التجارة البحرية، وإنشائها المستوطنات التجارية حول البحر المتوسط ونشر الديانات في العالم القديم، وإنشائها مستوطنة قرطاجة في تونس التي قارعت الدولة الرومانية، كما اشتهرت المدينة بتصديرها للأحرف الأبجدية.
كما تمتاز المدينة ببقايا رومانية قديمة، وعدد من المباني الحجرية، والأقواس، وبقايا معابد، وشكلت شاهدا على روعة الحضارة الرومانية. فمدينة صور لم تتفوق إلا في عهد الرومان، الذين قاموا ببناء القصور والقلاع والمعابد، ما أشار إلى مدى قدرتهم على الصناعة، فهناك لمعالم صناعة المصبوغات داخل صور الأثرية، التي عاش فيها الرومان، وعبروا فيها عن حضارتهم، وخلدوا ذكرهم بين الأمم، واعتبرت من أعظم الحضارات التي عاشت بمدينة صور.
وما زالت حملات التنقيب مستمرة حتى اليوم بحثاً عن آثار المدينة وتاريخها، وبنتيجة تلك التنقيبات أدرجت منظمة اليونيسكو عام 1979 مدينة صور على لائحة التراث العالمي.
عصر صور الذهبي
ويذكر كتاب “تاريخ مدينة صور” الصادر عن جمعية صور التراثية أن المدينة كانت عند تأسيسها بدايات الألف الثالث ق.م. تتألّف من قرية مزدوجة أقيم جزء منها على شاطئ البحر، فيما أقيم الجزء الآخر على مجموعة من الجزر الصخرية المنتشرة قبالته. أما عصرها الذهبي، فإن صور لم تبلغه إلا في غضون الألف الأول ق.م. ففي بدايات تلك الحقبة، في حوالي القرن العاشر ق.م.، قام حيرام ملكها بإنجاز عدد من المشاريع العمرانيّة، فوصل الجزر ببعضها وردم جزءاً من البحر بهدف توسيع رقعة المدينة الساحلية. ثمّ ما لبثت المدينة أن تجاوزت حدودها الضيقة بفضل إقدام تجّارها وبحّارتها الذين جابوا البحر المتوسّط ووصلوا إلى سواحل الاطلسي، وأسّسوا لهم المستعمرات والمحطات التجارية، ومن بينها قرطاجة التي أنشأوها على الشاطئ التونسي في حوالي العام 815 ق.م.
واعتبرت تلك الحقبة عصر صور الذهبي، فازدهرت وأثرت بفضل منتوجات مستعمراتها إلى جانب صناعاتها المحليّة، التي من بينها صناعة الزجاج الشفّاف وصناعة الأرجوان على تلك العقود من الزمن. بيد أن التجّار الصوريين لم يكتفوا بنشر بضائعهم وسلعهم، بل تخطّوها إلى نشر حضارتهم. وإليهم يعود الفضل في إيصال الأبجدية الفينيقية إلى الإغريق الذين حفظوا لهم الجميل من خلال تدوين أخبار قدموس ابن ملك صور الذي لقّنهم الأبجدية وأخبار أوروبا شقيقته التي تركت اسمها على القارة المعروفة باسمها.
شوارع مرصوفة بالفسيفساء
وفي صور مجمعات واسعة من الأحياء السكنية والحمامات العامة والمجمعات الرياضية والشوارع ذات الأروقة وذات الأرضية المرصوفة بالفسيفساء. وتعود تلك المنشآت بمجملها إلى العصور الرومانية والبيزنطية، وهناك بعض بقايا أرصفة المرفأ الفينيقي الجنوبي، التي لا تزال منتشرة قرب الشاطئ، كذلك عثر على بقايا كاتدرائية صور الصليبية التي استخدمت في عمارتها أعمدة من الغرانيت الأحمر وأحجار تم استخراجها في حينه من المنشآت الرومانية.
ويلفت أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد ناصر إلى ترميم شارع من العصر الروماني في العصر البيزنطي، في وسط البرزخ الذي أنشأه الإسكندر الكبير. وتحيط بجانبي هذا الشارع كما هو بارز اليوم، الأروقة ويقطعه قوس نصر عظيم ذو ثلاثة مداخل، وتجري على جانبه الجنوبي قناة معلقة على قناطر كانت معدة لجر مياه نبع رأس العين إلى المدينة.
وعلى جانبي الشارع تمتد جبانة واسعة تتداخل فيها العمائر الجنائزية والتوابيت الرخامية والكلسية والبازلتية ذات الأشكال والزخارف والمنحوتات المختلفة، وقد دامت فترة استخدام هذه الجبانة من القرن الثاني إلى القرن السادس بعد الميلاد.
الشاطئ الأكبر في لبنان
شاطئ مدينة صور من أكثر الشواطئ اللبنانية الرملية جمالاً، وهو الشاطئ الأكبر المتبقي في لبنان. وتعد محمية شاطئ المدينة من أبرز وأكبر محميات لبنان وتوصف بأنها ذات الطبيعة الثلاثية الأبعاد لما تجمعه من تنوع بيئي، حيث أنها تجمع الغطاء النباتي الأخضر والكثبان الرملية الصفراء والشاطئ البحري الأزرق، وتصل مساحتها إلى 3.8 كلم مربع. وهي اليوم تشهد خطة لاستمرارية حماية النباتات في نطاقها والتي يزيد عددها عن 300 نوع.
أسرار الطبيعة وآثارها المميزة في مدينة صور لا ينتهي فصولا، حيث يزخر الجزء الغربي من شاطئها بمغاور وكهوف، كما تستلقي عليه أعمدة رخامية يضربها الموج من كل مكان.
والملفت أن هذه الكهوف التي حفرها الإنسان عبر أكثر من حضارة، لا تزال ظاهرة للعيان، ويمكن بلوغ بعضها عبر نافذة تطل على الماء وقد علتها قنطرة من الحجارة الرملية، أما البعض الآخر فمشرّع للريح والهواء ولا يصله الموج، وقد زينت أرضه وجدرانه بحجارة رملية حمراء.
ويلاحظ أن للأعمدة الرخامية مثيلات في عرض البحر، وهي تعود في نظر الغواصين إلى الحقبة الرومانية نظرا لتشابهها مع نظيراتها في موقعي آثار صور البرية والبحرية.
وتفتح المواقع الأثرية أبوابها أمام الزائرين طيلة أيام الأسبوع، وتزخر المدينة بعدد من المطاعم التي تقدم أشهى ثمار البحر، بالإضافة إلى المطاعم التي تقدم الأطباق المحلية والمقاهي المنتشرة على طول أرصفة المرفأ. وتنتشر في مدينة صور المطاعم المتميزة بالمأكولات البحرية وبمواقعها وهندستها الفريدة من نوعها.
لا بد لزوار مدينة صور أن يتجولوا في الأسواق القديمة، حيث يرتفع خان من العهد العثماني، ومنزل قديم من العصر عينه تملكه إحدى عائلات صور العريقة من آل المملوك، بالإضافة إلى مسجد ذي القبتين والعمارة الرائعة.